الأربعاء، 27 يوليو 2011

حوار مفتوح مع الفنان شوكت الربيعي أحرت الحوار الشاعرة والرسامة نوال الغانم

المثقف في حوار مفتوح مع الفنان التشكيلي شوكت الربيعي (2)
s4خاص بالمثقف: الحلقة الثانية من الحوار المفتوح مع الفنان التشكيلي شوكت الربيعي، لمناسبة تكريمه من قبل مؤسسة المثقف العربي، وفيها يجيب على (ق2) من أسئلة الفنانة التشكيلية والشاعرة: نوال الغانم.

س9: نوال الغانم: متى ينظر المبدعون العرب والمسلمون إلى تجاربهم الشخصية في سياق عموم الحركة الثقافية والفنية في بلدانهم خارج حدود المعنى التقليدي المالوف، وبعيدا عن الرغبة في تدوين مجرد صفحات عن الفن التشكيلي، قد تكون مسكونة بخيبة الكاتب أو الفنان هل تدفعه للبحث والتقصي في مفاصل اللون والخامة التي يتعامل معها بشكل مختلف؟ وهل بامكان النقد أن يعيد بلورة رُؤى الفنان التشكيلي؟
ج9: لا يكفي انبثاق صوت منهجي نقدي آت من أمكنة الإبداع ومسرات الإنجاز.. فهل سيكمن الجواب في (متى) ما وعى الفنان وأدرك واقتنع، بأن محاولته في البحث عن هويته الحضارية، تصاغ ضمن تجربة جمالية تمزج بين مفهوم: ان الفن (كيان من عمليات تشتغل في الخيال) وليس (كيانا من اشياء وضعية متراكمة)، كما تراها بعض مؤسسات الثقافة القائمة في الوطن العربي. ومابين تزاوج طاقة المثقف وانتاجه المرتبط غائيا بالمجتمع واقتصاد العالم، ينتج عنهما معرفة ثالثة نافذة من أشكال لها وجود المادة والروح معا، وجود قابل للتحول المتبادل، شكلا وموضوعا وكتلة. دون أن يؤلف نقضاً للمفاهيم والخصائص التي تتصف بها المادة، وتشكل (كيانا لطاقة متفاعلة باستمرار تمثل الصورة الجديدة للعالم). ويمكن التعبير عنها، باستخدام وحدات جمالية مستنبطة من المجتمع والواقع، ومستولدة من الطبيعية ورؤى الانسان الفاعل في الخصائص الاساسية: ومنها مصدر الوحدات الجمالية اللازمة لفن (العمليات) الذي تشعه كيميائيا بألوان الخطوط الطيفية، لتجد بالالوان النقية، تعبيرها الفني المتميز، وذلك (برسم صورة اوتشييد نموذج) للعالم باعتباره، (كياناً من عمليات تشتغل في الخيال). ولئن أمكن تطبيق ذلك في مجال فن الانسان، فإن الفنان سيعيد ترتيب مفردات الطبيعة بمعمار جمالي آخر، يعبر عن فن انساني جديد. وسيعيد بواسطته، خلق نفسه ورؤيته ومواقفه، ضمن وحدات فن البشرية المستقبلي.. وبمساعدة مفهوم: (أن العالم كيان من عمليات تشتغل في الخيال). وهذه ليست إيقونة متخيلة من الرغبات، بقدر ماهي منهج وعلم، يمتلكان آلية تطبيق وضعية.

س10: نوال الغانم: اللوحة الفنية التي تفهم من قبل المتلقي دون بذل ايّ جهد فكري أو تأملي، ولا تـثير تساؤلات أو بحثٍ أو تقصي في سيمائياتها ورمزياتها.
*هل تستحق أن تسمى لوحة أو لنقل عملاً فنياً مهماً؟
ج10: هناك قراءات مختلفة وطرق متعددة للنظر الى تأمل اللوحة المرسومة أو قطعة النحت أوالخزف أو الجرافيك بأنواع تقنياته الحديثة. وليس من المعقول تجاهل لوحات رائعة للكلاسيكين المعروفين في العالم، لمجرد أنها لوحات تفهم من قبل المتلقي دون بذل ايّ جهد فكري أوتأملي؟ تلك اللوحات التي تشغل حيزا مميزا من مساحات جدران صالات ومتاحف الدنيا من الأرميتاج في لينينكراد الى اللوفر الى المتربوليتان الى مئات المتاحف المتوزعة في شتى أنحاء العالم. الى جانب اللوحات الواقعية والانطباعية، وما بعدها من التاثرية، والى تجارب ومدارس الفنون الأكاديمية الواقعية. التي تعد بالملايين. نقول هل من الانصاف أن نغض الطرف عن جماليتها وتأثيرها في عيون المشاهدين على مختلف درجات وعيهم وانحداراتهم الطبقية. هل لأن الشخص(مشاهد) اللوحة الفنية التي تفهم من قبله دون بذل ايّ جهد فكري أوتأملي، ولا تـثير تساؤلات أوبحثٍ أو تقصي في سيمائياتها ورمزياتها. ، هي ليست من الفن الرائع في شيء. لايمكن أن نطلق مثل هذه الأحكام على الأعمال الفنية لأنها كذلك، كما يظن خطأ..
على ذلك الاعتبار الظني.. أين نضع أعمال أساطين عصر النهضة وما قبلهم؟ أين نضع أعمال الكلاسيكية الجديدة وأعمال كوربية والواقعيين.؟ اذا أخذناهم ووضعناهم ضمن ذلك المقياس؟ ولكننا اليوم لسنا أمام (الأسئلة القديمة ذاتها) التي لاتكلّ عن شرح مناهج الإنسية وأخلاقياتها. فأسئلة اليوم المتجددة، كانت قد تركت العموميات والمبسَّطات جانباً. وكان كل هذا، يدل على أن في البنية الأساسية للنتاج الفني، نشأ تصدع بطيء، قد يشير الى أن دور الأستيتيكا لوحدها، قد يبدوواهنا متآكلا. فالمدارس الجمالية، والاتجاهات الفنية المنبثقة فيها، والتيارات الفنية المستحدثة والمستولدة عنها، والأسماء الكبيرة الرائدة فيها، لاتكون اليوم عامل تنظيم في الفنون والآداب، بمعزل عن المجتمع، بل تقطيعا لأوصال بنيتهما. لقد حصل تغيّر غامض في التعامل مع الفن: بدل الموقف (الأستيتيكي) أو الشكلاني، حلَّ الآخر: الوجودي أو الأنثروبولوجي..)؟ ينبغي أن نتساءل: هل الفن الذي لا يؤدي إلى تنظيم وتقوية القاعدة المادية، لا أهمية له في خدمة حاضر المبدع، ولايحمل قيمة مغيرة لصالح المستقبل؟.
لابد من نشوء مركز رؤية حضارية متقدمة للأدب والفن والثقافة عامة، يجتمع فيها قطبا الأخلاقيات والجماليات ويتماهيان في بوتقة معرفية واحدة.. ونحن حين نقف (منبهرين) أمام جلال العمل الفنى الحقيقي، نشعر أن متعتنا يتهددها فراق أبدى يحوم حول رؤوسنا، وندرك أننا لا نملك غير لحظة واحدة من الخلود.. ألا فلنسرع إذن باغتنام هذه اللحظة قبل أن ينتزعها منا الفناء، فليس ثمة شكل آخر للخلود، سوى الفن.

س11: نوال الغانم: كيف يمكن لنا أن نقوم بتنمية وتطوير الذائقة الفنية عند المتلقي؟ ومن اي المراحل التربوية يجب أن نـبدأ؟
ج11: أولا: - تنمو الذائقة الفنية عبر وسائل التعليم والتربية. وما قبل المدرسة. كما ينبغي أن نشير الى ضرورة معرفة ودراسة بيئة الفنان وحياته ومفردات تحولاته الأسلوبية. وضرورة معرفة بيئة الناقد الفني التشكيلي، أيضا، ومعرفة مكونات مسيرة الفنون عامة، لتحقيق الأهداف الثقافية المرتجاة المبتغاة في النقد الفني التشكيلي، ضمن المفهوم الاجتماعي.
 حاولنا أن نقنع صفوة من الكتُّاب ونقدة الفن، إلى التوجه نحو تاسيس وتكوين وتصميم معمار حديث لقراءة العمل الفني، في اطار أدب النقد الفني التشكيلي العربي المتقدم.. وإزاء ذلك كنا نتساءل، بأي معنى علينا أن نقرأ كتابنا، هذا الذي يأتي متحدثا عن مسيرة تجارب حدثت من قبل، واستغرقت في تطوافها، أكثر من مائة عام من) زمن (لم تعد أسباب معطياته وحوافزه وعلله قائمة، بل ثمة تفاسير مركبة ومعقدة ومتشابكة على جانب تعليلي مهم في هذا الكتاب. نجد فيها عناصر الواقع الثقافي العربي الذي كان قائما في تفاصيل سنوات الحرب الأولى وابان فترة العشرينات، وحتى اليوم، بحيث تبلور قويا، طموح الفنانين للسيطرة على أدوات انتاجهم وأفكارهم ومنطلقاتهم، وتوجهات مبدعي العصر كافة. وما كان كتابنا ينقل لنا كل تلك الرؤى والمنطلقات، الا، لكي نراها: القوة المرتجاة المبتغاة التي تقودنا إلى فهم أوضح لمعنى الفن ودوره في الحياة عبر تحولات ربع القرن الآتي من الألفية الثالثة.
وكان ذلك المعنى يشير الى الجزء الأوضح من غاية الكتاب وهدفه، ولايزال علينا أن نعكس التجربة الابداعية، الخليجية بخاصة، والعربية بعامة، ومختارات من التجارب الاسلامية العالمية التي تأثرنا بجماليتها الفنية: (الرسم والنحت والحفر والطباعة بأنواعها وبتنوع تقنياتها والخزف والفخار والخط العربي والزخرفة الاسلامية.). ، كما حدث في كتابنا (رسامون كتاب) – الذي صدر لنا في بغداد عن الموسوعة الصغيرة عام 1976).. وكان يهدف الى التعريف بتجارب تشكيلية وشعرية وأدبية لمبدعين (رسامين وكتاب وشعراء) دون الاقتصار على ثيمة مضمون واحدة، بل ضمن مواضيع كثيرة شملت تفاصيل الواقع اليومية وعناصر الطبيعة المختلفة. (الصيادون) وزوارقهم في الأهوار ومشاهد (البردي والجولان والقصب) وتيجان الازهار والثمار والزنابق والعشب وأنواع الطيور والأسماك وأكواخ الطين والبواري والقصب والنسوة والأطفال وتنانير الخبز ومواقد شواء السمك (الصبور وطيور الخضيري والحذاف.. حيث تجلت وكأنها الخلفيات الطبيعية للنصوص الشعرية والأدبية: القصة والرواية والرسم والتصوير الفوتوجرافي). منغمرين بفيض من معايشة هذه الطبيعة وحياة انسان أهوار جنوب العراق فيها، ومعرفة الفنان البصرية العميقة وادراك الكاتب والفيلسوف والمؤرخ لأدق تفاصيل تلك الطبيعة، ليعبر عنها ويرسم روحها ويدون قيمتها الثقافية والتاريخية، أجمل تعبير وأصدق توثيق.. كانت وحدات ومفردات وثيمات (تستخدم كأدوات تطييف واضفاء البهاء، الخيال بالصياغة التي تجعلها تخدم ركائز المعمار الأساس للعمل الفني والأدبي معا، لوصف هدف أوباعث أوحافز لشيء ما. لرسم أشكال أو هيئات او قسمات أو دلالات أو رموز وسمات ومزايا وتشبيهات، استخدمت من الطبيعة بعناصرها الرئيسة: آدمية وحيوانية ونباتية محددة، لبناء مشاهد (مركبة).. تساعد المبدع على خلق إنطباعات مركبة: (صورمؤلفة). تكمن فيها جمالية المتعة الفائقة والمقدرة الحاذقة التي تُميز الابداع العربي الاسلامي. ولن يتحقق ذلك بدون العلوم الحديثة والمعرفة الجديدة. التي تبدأ من الطفولة ورياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعية.

ثانيا: كان هذا المشروع، ربما، سيؤدي، إلى التنوير بتاريخ الفن العربي وبالقيم الفنية العربية، وبمفاهيم الفنون التشكيلية الجمالية والروحية، في العالم الإسلامي كله. فالإنتاج الفني المصحوب برؤية نقدية حديثة، أصبح قيمة رفيعة في التجارب العربية والاسلامية، وغدا ترجمة ثقافية على أرض الواقع ضمن مستجدات المعرفة في عصرنا الراهن لتحقيق هدف نبيل وعظيم، طالما توفرت له الحرية الفكرية لاتقان الروح النقدية الإبداعية. ويتضمن النقد الفني المعاصر: الوصف، والتفسيـر، والتقييم، والتنظير حول فلسفة الفن ودوره في المجتمع.

وتتكون نظرة النقاد إلى الأعمال الفنية من واقع تفاعلهم معها، الأمر الذي يجعلهم يتساءلون عن ماهية العمـل الفني من حيث إدراكه ووصفه ومعناه وغرضه ودوره في تحليل وتفسير القيمة الفنية التي يستحقها ضمن مفردات طبيعة الفن التنظيرية، لنتبين وظيفة النقد الفني والأغراض التي وجد من أجلها، وبالأخص الأوضح، معرفة دور الفن اجتماعيا وبالتالي تفهم دور النقد الفني التشكيلي في تقريب المسافة بين المشاهد والعمل الفني.. وللناقد "دور تـاريخي إذ يسـترجع الاتجاهات والطرز ويتحدث عن تأثير الفن من حضارة ما على فن حضارة أخرى. " وذلك مدخل ثقافي إلى طرز المعرفة الشاملة.
من هنا ينبغي التأكيد على ثقافة الناقد في مجال تاريخ الفن، وعلـم الجمال، وأسرار التقنية الحرفية والصياغية في ممارسة العمل الفني، متواصلا مع المنجزات الفنية المعاصرة محليـا وعالميـا. لكي تتوسع مداركه وآفاق فهمه وعلمه بكتابة وتدوين الرأي النقدي على وفق القواعد الذهبية لعلوم النقد العامة. ويتطلب ذلك، العلم بأصول النقد الفـني التشكيلي، وقواعـده، ومناهجه، ووظائفه، ودوره في المجتمع.) وينبغي العلم بوسائط الاتصال، وادراك قيمة المقارنة المتنوعة والمختلفة في الفن، بين أعمال فنية مختلفة لفنان واحد، أو بين أعمال وتجارب عدة فنانين لهم خصوصياتهم، ولهم أزمانهم ومراحل تكونهم الذاتي وبيئاتهم المختلفة.. لقد بحثنا في مجال تحليل الادراك، وفي مجال انظمة العلاقات التي لها علاقة بـ (علم الدلالات)، مؤكدين أن(.. للفن البصري أيضاً عوامله ودلالاته والتي من خلالها نستطيع ان نميّز وندرك القيمة الفنية. ويجب ان نضع في الحسبان بأن هذه القيم والعوامل والعناصر تتغير، وبسرعة، من عصر الى آخر خاصةً في السنوات الخمسين الاخيرة حيث تغيّرت نظرة الفنان الى مفهوم الفن وأصبح من الصعب ان نشير الى السؤال الأبدي ما هو الفن؟ لأن عناصر الفن البصري مثل الخط، الكتلة، الفراغ، اللون وغيرها تعني شيئا آخر ومختلفا من وقت الى آخر.. مثلاً عندما نشاهد لوحة للرسام الهولندي فيرمير والتي بعنوان امرأة تحمل الميزان رسمها عام 1664 يجب ان نضع في الاعتبار مسألة النور والعتمة لأن فيرمير كان يعنى برسم المشاهد الداخلية للحياة اليومية ولهذا السبب نشاهد في اغلب لوحاته أن الضوء صادر فقط من مصدر واحد وهو النافذة.
وكان بهذا يمثل اسلوبا محددا وصياغة مميزة وطورا ممثلا لحقبة زمنية محددة. اما لوحة هنري ماتيس والتي بعنوان دراسة الطبيعة التي رسمها عام 1905 فمسألة اللون وحركة الضوء في الطبيعة هي القيمة الجمالية لفناني أواخر القرن الثامن عشر مثل اعمال الانطباعيين وما بعدهم لأنهم انهمكوا في رسم المشاهد الخارجية مباشرةً من الطبيعة، بالاضافة الى انه مع بدايات القرن الثامن عشر انتشرت نظريات جديدة في مجال فيزياء اللون وعلم البصريات التي اعتنت وتعمقت في مسألة التحليل النفسي والفيزيائي للألوان والاشكال وهذه النظريات شرحت علمياً الوهم البصري.
الفن التشكيلي هو عبارة عن محادثة بصرية بين المشاهد بالتحديد عين المشاهد والعمل ولهذا السبب، فان العمل الفني سواء كان لوحةً أو نحتاً أو عملاً تركيبياً كـ شيء فهو أبكم او صامت، هذا الشيء عبارة عن وسط يعبر من خلاله عن مدى ادراك وفهم الفنان عن العناصر التشكيلية وكيفية استخدامها والى اي مدى استطاع الفنان ان يستغل هذه العناصر البصرية ليواكب العصر الذي يعيشه، كأن الفنان يخلق حواراً وبثقة مع المشاهد ولكي يكون هذا الحوار ايجابياً يجب على المشاهد المشاركة وبفعالية عالية بأن يكون مستوعباً بشكل مسبق الدلالات البصرية في مجال الفنون التشكيلية، وإلا اصبح العمل التشكيلي لغزاً بالنسبة له، بمعنى آخر ان العمل الفني الجديد بحاجة الى مشاهد جديد وهذا يتطلب إدراكاً جديداً.
 على الرغم من اننا نأتي بنماذج وأمثلة عن الفن الأوروبي، ولن نقارن أعمال كمال الدين بهزاد بأعمال بن عزيز وابن البواب والواسطي وهم جزء من تاريخنا الجوهري بل استندنا في توضيح الدلالات البصرية في الفنون التشكيلية على علة تجارب فناني الغرب. ونبرر ذلك التوجه والاختيار باننا جزء من ثقافة وحضارة الغرب القائمة. وتلك مزالق الفهم الناقصة في صياغة ومعالجة النقد الفني التشكيلي وأدبياته في الوقت الراهن. والمسؤولية تقع على عواتق الذي يكتبون في أدب النقد التشكيلي، من نقدة الفن، والباحثين في تاريخ الفنون الجميلة، بين العرب والمسلمين كافة.

س 12: نوال الغانم: هل يمكن تقديم فكرة تدوين الفن المعاصر، وأدب النقد الفني التشكيلي؟
ج12: كنا نسعى إلى تقديم فكرة وافية لمشروع تدوين الفن المعاصر في الوطن العربي: إذ هومقدمة لمشروع اعادة كتابة تاريخ- الفنون العربية واعلامها وروادها، وأشهر مبدعيها المعاصرين. وإن ذلك سيجعلنا نتساءل: (هل الفن الذي لا يؤدي إلى تنظيم وتقوية القاعدة المادية للمجتمع، سيكون ضعيف المقدرة والأهمية في خدمة حاضر المبدع، ولا تتبلور فيه قيمة مغيرة لصالح المستقبل.؟
 كانت مثل هذه النشاطات في الفنون والآداب والثقافة والعلوم، قد سبقت إنجاز توجهات فناني ونقدة الفن، إلى النهوض القيمي والجمالي والاجتماعي التي تعنى بمكتسبات الروح والفكر، وتستعين بهما لتنشيط العقل العربي الساكن طيلة عقود غابرة، وقبوله للتحديث المتحرك المتجدد، والتفاعل مع المتغيرات العلمية، وللتحاور مع الرؤى المستقبلية. ولن يتحقق ذلك بدون اعتماد العلوم الحديثة وتقنياتها والمعرفة الجديدة ومنابعها وغاياتها ووسائلها وأهدافها.
إن الهدف من هذه التجربة التوثيقية النقدية المعارفية معا، هو تدوين مكتسبات مسيرة الفنون التشكيلية التي حققها فنانوالتجارب المتميزة فيها طيلة العقود العربية والاسلامية السابقة، على أن تخضع لقيمة النقد الموضوعي والوضعي معا بمنظار العقل الحديث، لتحديد ملامح الخصوصية التأريخية والروح النقدية للعقل العربي الاسلامي وحريته الفكرية والعلمية.
ثالثا: القيمة الفنية وجماليتها.

س13: نوال الغانم: وماذا عن الذاكرة الشخصية في لوحاتكم المعروضة الآن في المثقف؟
ج13: نحاول فيها أن نعيد قراءة الذاكرة الشخصية من المنبع، وتصفح الأوراق المنسية، واليوميات القديمة، لنجعل من هذا السفر أنيسا، ومثيرا. وأردنا لهذه النصوص، أن تصبح أشبه بالمذكرات الوثائقية الحميمة، حول الفن التشكيلي: (بيئته، ونشأته، ومسيرته وتحولاته وملامح شخصيته)، وإعادة اكتشاف القيم الجمالية التي تحملها الأعمال الفنية، باعتبارها ملامح مختلفة، أفرزها تقدير حديث، وصورها من زوايا النظر النقدية المعاصرة، المنظور إليها بحثا، لأنها جزء من منهج الكاتب النقدي الذي حاول في دراسته، أن يعبرعن روح التجربة ومزاج المفن البارع، وافكاره ومعالجاته للشكل والموضوع والمضمون. ولكي يعطي صورة مميزة عن استنتاجاته الأساسية التي تمخضت عن منهج البحث، ناقدا، وباحثا يتقن فن الاختيار الصعب. ولكنه لايستلب من (مشاهدي ومحبي الأعمال الفنية)، حرية تأمل روح القيمة الفنية وجماليتها، ولايضيع عليهم متعة الاكتشاف. وهكذا يمكن لقاريء صحيفة المثقف أن يدني إليه تجربتنا. ولونأت عنه الديار، فهذه اللوحات، هي التي ستجعله يفكر بحياة أولئك الذين يعيشون بعيدا عنه، لكي يرغب في التعرف على حنايا (عوالمهم).. إذ أن الحياة تمضي، وتستمر معها الأحداث والمتغيرات. وسنفهم علاقة المثقف بالموقف الملتزم إزاء الموقف المسكون بخيبة الرجاء، واضحة.
وهنا ينبغي أن تظهر الكيفية التي نهضت عليها البنية الشكلية العامة ومدلولات مضمون النقد الفني التشكيلي العام، مجسدا جمالية العمل الذي ظهر ناضجا متميزا. وبهذا الكشف والتعرف، سنفهم: أن التداخل في معالجات وصياغات تقنية متباينة، يؤثر عميقا في البنية التركيبية الولودة، إذ لم يبق من لباب فكرة العمل الفني، سوى الومضة او الإشارة الموحية. كما تختلف تقنية مسطح العمل الفني، عن تخطيط ومعمار استيلاد الموضوع المتداخل البسيط من رحم تجربة ناضجة وجاهزة أخرى، غير أن الفارق بين الأمثلة يكمن في المعالجة، وتنفيذ وصياغة الشكل الفني المطلوب، فبدا وكأنه (كولاج) الصق بمادة (البنل) اللزجة على مسطح اللوحة، أو كأنما وضع الفنان (إسكيجا أو ماكيتا) تخطيطا أوليا تجريبيا عكست مرآته ما تبلور عن تجربته من ملاحظات، ومنها: التقنية واللون والمعمار العام للعمل الفني بمختلف وسائل انتاجه.
بهذه الإستعارة سنقرأ النصوص، التي ستساعدنا على فهم نشوء وتطور الفنون التشكيلية العربية، التي كانت قد تبوأت في العقود الأخيرة من القرن العشرين مكانة بارزة، سواء على مستوى الانتاج الفني المتميز، في معارض الفنانين الشخصية والمشتركة، او على مستوى التجارب والإتجاهات والمعالجات والصياغات وتقنيات العمل الفني كافة. مقتحمة مجالات التعبيرالمتنوعة المتعددة، إذ لم تعد إشتغالات المبدعين قاصرة على خامات اللوحة التقليدية ومواد النحت المألوفة، بل شملت جميع وسائل التعبير الحداثوية المتقدمة وانتشرت بين تجارب فناني الأمصار العربية، مقتحمة مجالات التعبير السائدة في عالم دائب على التغيير، حاملة نبضها ووجدانها وذاكرتها للعالم، بحكم الخبرة المتراكمة عبر تجارب المبدعين الثرية المتنوعة المشارب والتوجهات الاسلوبية.. ولقد تصاعدت مع نمو وتطور عناصر الشكل الفني أو معماره، مستلهمة وحداتها ومفرداتها وثيماتها من رحابة التخييل الإنساني، ومن الأساليب والأشكال المعاصرة، التي استلهمت روح التراث العربي والاسلامي، على امتداد القرن العشرين المنصرم. وما بين رحابة عالم التخييل والتركيب الفني، تتبلور إتجاهات مستولدة عن تلك التجارب الفردية والمجتمعية. (.. ان العلاقة الجدلية بين المبدع والناقد تعكس نمطاً من الثنائية الحضارية المنتجة، ويتوقف ذلك دائماً على صحة هذه العلاقة وتوازنها وحضاريتها، ويتدخل الناقد في سيرة الشاعر الشعرية حتماً لأنه ضرورة، إلا أن الشعراء على نحوخاص والأدباء على نحوعام، غالباً ما يضيقون بهذه الضرورة، ويعلنون في أية مناسبة تتاح أمامهم، عدم أهمية الناقد في النظر إلى تجربتهم وتقويمها، لكنهم في الوقت عينه يتطلعون دائماً إلى ما يقوله الناقد بشأن إبداعهم. وهل حقا أن المبدع لايكترث لما يقوله النقاد " أو تجيء به تنظيراتهم الآتية من خارج الجسد الذي يحترق، والجسد الذي يطمح أن يأخذ حصته من الهواء والحياة والعدالة"

س14: نوال الغانم: هل يمكن للفنان التشكيلي التعامل مع اللوحة دون أن يكون متسلحاً بفكرةٍ، بمعنى انه يضع الخامة والألوان والأدوات أولاً ويبدأ بالرسم وبعدها تتبلور لديه الفكرة؟
ج14: ممكن أن يحدث ذلك عند الهواة الذين لا يملكون خبرة جوهرية في العمل الفني، فنجدهم ينتجون أعمالا مرتبكة وفقيرة وسطحية ورديئة.. ولكن، ممكن جدا عند الرسامين التجربيين المحترفين المتسلحين بالخبرة الذين لديهم باع طويل في مهنة الفن وابتكار تقنياته النوعية العديدة: رمبرانت وجويا وبروجويل وروسو، وعبد القادر رسام ومحمد صالح زكي وعاصم حافظ وعبد الكريم محمود والحاج سليم علي. وقاسم ناجي.
 ولنتحدث عن حالتي الخاصة بالتعامل مع اللوحة: في بداية محاولتنا في الرسم، لم نفطن أننا وقعنا في إشكال آخر، عندما رسمنا كما فعل فنانون آخرون وكنا نستنسخ لوحات دافنشي وروبنز وديلاكروا وجويا وسيزان. وخاصة الفنان الفرنسي (بول سيزان-1838-1906)، من حيث بناء اللوحة واختيار الألوان والتأكيد على الأزرق والأخضر والبنفسجي والبرتقالي ومشتقاتها، واعتماد الأشكال الهندسية المرنة ونقاوة اللمسات اللونية الممزوجة بالضوء واشعاعيته في الطبيعة.. كما أن طواعية المشاعر الخاصة التي تعكسها الانطباعية، هي التي دفعتنا إلى إيجاد توازن هندسي طري جعلنا ننشغل برؤية الأشياء من الداخل، دون التحرر من الوضع المتميز لبناءات "سيزان"، فهوقد حرر نفسه مما تفرضه الرومانسية من شروط وانه في تحول شكلي مفتوح.. كان يعالج تخطيطه بالفرشاة ثم يكون السطوح ويشغل فضاءاتها بحجوم تتجه في الأغلب نحونقطة مركزية، تلملم حولها ما يقع ضمن إطار المربع أو الدائرة أو متوازي المستطيلات آو المخروط. وبذلك يكون الشكل لديه غير مجزأ.. ثم يبدأ باختيار الألوان الثرية المكتنزة حيوية وطراوة، المشبعة بالضوء.. هو يعنى بالبناء أيضاً عنايته باللون والتركيب، وذلك بإحداث تغيير في زاوية رؤية الأشياء عن طريق التحوير المقصود في الوضع الطبيعي للمرئيات ومنظورها، وأحداث تغيير في الضوء الطبيعي وجعله ذا اتجاه تصويري.

س15: نوال الغانم: بين الفنان التشكيلي واللون لغة حب كونية من طراز خاص. وهذه اللغة تختلف من فنان الى آخر. يشعر ويحس بها كأصابع تتوغل بين ضلوعهِ. فمرة نراه يخلع الصباحات على لوحاتهِ، ومرة نقرأ الخوف في عين الوانه التي اراد لها ان تكون لغة تفاهم مشتركة بينه وبين اللون من جهة والمتلقي من جهة أُخرى؟.
ج 15: لغة الحب الكونية التي تنمو وتزدهر بين الرسام واللون، هي أيضا مفاصل من ملامح حضارة شخصية وخلفية ثقافية، يمكننا الآن الحديث عنها وعن محبة الفنانين الآخرين لتجارب أولئك المبدعين المؤثرين بمسيرة الفنون التشكيلية في العالم، أكسبتنا جميعا، المزيد من الخبرة والتواصل مع تجارب آخرين من أجيال جديدة. كما منحتنا حوافز جوهرية للرسم وتطوير التجارب الفنية التي نمارس جانبا من صياغاتها التجريبية التعبيرية النقدية وباشكال حديثة تتصاعد مع المضمون الملتزم بقضايا المجتمع وبروح المستقبل.
في بداية محاولتنا في الرسم، لم نفطن أننا وقعنا في إشكال آخر، عندما رسمنا كما فعل الفنان الفرنسي (بول سيزان-1838-1906)، من حيث بناء اللوحة واختيار الألوان والتأكيد على الأزرق والأخضر والبنفسجي والبرتقالي ومشتقاتها، واعتماد الأشكال الهندسية المرنة ونقاوة اللمسات اللونية الممزوجة بالضوء واشعاعيته في الطبيعة.. كما أن طواعية المشاعر الخاصة التي تعكسها الانطباعية، هي التي دفعتنا إلى إيجاد توازن هندسي طري جعلنا ننشغل برؤية الأشياء من الداخل، دون التحرر من الوضع المتميز لبناءات "سيزان"، فهو قد حرر نفسه مما تفرضه الرومانسية من شروط وانه في تحول شكلي مفتوح.. كان يعالج تخطيطه بالفرشاة ثم يكون السطوح ويشغل فضاءاتها بحجوم تتجه في الأغلب نحو نقطة مركزية، تلملم حولها ما يقع ضمن إطار المربع أو الدائرة أو متوازي المستطيلات أو المخروط. وبذلك يكون الشكل لديه غير مجزأ.. ثم يبدأ باختيار الألوان الثرية المكتنزة حيوية وطراوة، المشبعة بالضوء.. هو يعنى بالبناء أيضاً عنايته باللون والتركيب، وذلك بإحداث تغيير في زاوية رؤية الأشياء عن طريق التحوير المقصود في الوضع الطبيعي للمرئيات ومنظورها، وأحداث تغيير في الضوء الطبيعي وجعله ذا اتجاه تصويري.
 إن ظهور هذا الاتجاه الاخير في الفن التشكيلي بتلك القوة في لوحات براك وبيكاسو، بتاثير من تجربة بول سيزان، إنما لأن الرؤية المستولدة عن ذلك، كانت تعتمد (لحظات خاطفة) من تفاعل العقل الواعي واللا واعي، في ومضات سطوح الاشياء وغموضها، ويحاول النفاذ الى واقعها. وكما تمكن سيزان ان يفصل (إدراكه الحسي) بالطبيعة، وماتفعله (وراء ذلك الحس) أي (إثارة التراكمات) المترسبة في العقل اللاواعي عكس الفنان (كلود مونيه) أيضا، تأثيرات الضوء المباشرة وفعلها الفيزياوي على الحواس وفي (شبكية العين بالحصر) في هذا الصراع بين ماترسله الحواس الى العقل الواعي، وماتثيره من (كوامن) في العقل الباطن في اعمال الفنانين ظهر (ماتيس- 1869-1954) واسلوب (الوحشيين جماعته (أطلق الناقد لويس نوكسيل هذا الاسم عليهم عام 1905). كان هذا الاسلوب حسب ماعبر عنه (ماتيس) يعتمد (التعبير) أي اعتماد تفاعل (العقل اللاواعي) كما يحدث في بعض (الاحلام) مع العقل الواعي، ويقول، العمل الفني (فكري) أي اعتماد (الوعي) الذي يتضمن فعل (التنظيم) أي وضوح الصورة و(التعبير) أي نقاء الحس (فعل اللاوعي) فكانت (كياناً من عمليات تشتغل في الخيال)... لاحظ: (هربرت ريد/الموجز ص/32) أي (الادراك) الغامض للشئ (فعل اللاوعي).
وإذا كان "بيكاسو" "1881-1973" وجورج براك "1881-1963" (قد تعلما من لوحات سيزان كيف تتكون النظرة الهندسية في الطبيعة لإيجاد الأشكال المجردة بمساحات هابطة وأفقية وخطوط متضادة، حادة ولينة، ملتقية ومتوازية، عمودية ومستوية)، فإننا قد اتجهت إلى اللون عند سيزان.. وقبل هذا لم نكن نعي حقيقة التركيب الضوئي الذي كان يقصده في لوحاته التي مادتها الطبيعة والإنسان والفواكه والخضراوات، وتلك المشاهد التي كرر رسمها من مقاطعة أكس آن بروفانس، وقمة القديس فكتور وقرية استاك.. وكنا نعتقد أن هدفه في التصوير كأولئك الذين يعملون على إتمام الصورة وإجادة صنعتها، ولكننا الآن أصبحنا مقتنعين بأن رساماً مثله لا يمكنه التفكير بهذا الأسلوب.. فالاتجاه إلى الصناعة التي تطمس معاني الفن بمحوالعلاقات اللامرئية، الأساس في تتابع الصلات الرقيقة بين ذات الفنان وإنتاجه: "كل عالم قائم بذاته ومنفصل، ولكن إيجاد العلاقة بينها مهم وضروري" وهذا ما استحوذ علينا في الآونة الاخيرة، أي الفترة التي نراجع فيها ما قدمناه قبل انهائنا الدراسة الفنية، وابتداءً من إقامتنا للمعارض الشخصية عام 1964 وانتهاءً في 1/1/1969 حيث المعرض الخاص بالملصقات الجدارية. والبدء بمرحلة جديدة في البضرة وبغداد والعالم العربي ثم أوربا والعالم.
 l18

س16: نوال الغانم: هل يوضح لنا الفنان شوكت الربيعي سر الضوء الممتزج باللون الاخضر بجميع تدرجاته كقاسم مشترك لمعظم لوحاته؟
ج16: قبل البدء بالجواب أحب أن أشير الى امتلاء شبكيتي عيني بجمالية مياة الأهوار والأنهار والمستنقعات، ألوان المياه تلك المنغمرة بالضوء الساطع وما تثيره من انعكاسات وانطباعات بصرية. ذات مرة في العام 1971 كنت في البصرة آنذاك وقد زارنا وفد من جمعية الفنانين العراقيين برئاسة الدكتور الجراح الرسام قتيبة الشيخ نوري. وعدد من زملاء الهيئة الادارية وكنت آنذاك رئيس الجمعية في البصرة وقمت بدعوة كافة أعضاء وفود مهرجان المربد الشعري الأول في البصرة. وتحدثنا وتماحكنا في الكثير من شؤون الفن وأوضاع الفنانين. ومنها الجوانب النظرية في اتجاهات الفنون البصرية والدائرة وفلسفتها لدى الدكتور قتيبة الشيخ نوري. والواقعية النقدية وفن الأوب آرت الحركي البصري، ومبدعه الفنان فازارللي. وعندما كنا في سياحة نهرية في شط العرب وبساتين الخوير وأبي الخصيب، جرى الحديث عن الجمالية المدهشة لمسطحات مياه شط العرب، " إذ لم تكن مشهدية هذه المياه مفصولة عن مشهدية غابات النخيل المتاخمة لضفاف النهر".. وتوسع مديات رؤية الحوار هنا، فغدت حيوية النقاش مثيرة للحاضرين فوق مركب الرحلة النهرية، حوار دار بين شوكت الربيعي والدكتور قتيبة عن لغز الفراغ المخاتل المندس بين أجساد النخيل.
 فالزورق وهو يقلنا يبدو وكأنه يمرق أو يطوف فيما بين الفراغات أو الممرات الهوائية الفيزيائية حتى العمق منها. كان الجدل أو التفسير الجدلي، يدور بينهم حول ظاهرة تأسست من خلال خداع بصري. لكن النقاش أقصى ظاهرة الخداع لصالح إشارات الطبيعة السرية والوجودية. " وبمقارنته (مؤخرا) بإطروحات الوجودي (مارلوبونتي) في بحثه عن(اللا مرئي)، وبالذات في مسعاه النظري للمس جسد الفراغ. رغم أن (سارتر) كان حاضرا في الادعاءات الفلسفية لمثقفي العراق في تلك الحقبة الزمنية، ومنهم شوكت الربيعي. الذي نشر عدة مقالات عن الفن اللامرئي في جريدة كل شيء الاسبوعية عام 1964 أي، قبل هذا الحوار بعشر سنوات. و وبهذا الصدد قال الفنان الكاتب علي النجار: (.. بما أن الجدل وجودي. إلا أن بونتي كان حاضرا هنا في اطروحاته الفراغية. أولا من خلال مادته الفيزيائية الهوائية بكثافة رطوبتها المائية، وثانيا بإيحاءات مخاتلة موشور الأشعة الضوئية للفراغات، الممرات المتعاشقة وأجساد النخيل التي تتضاعف مساحات امتدادها وحتى شبحيتها في العمق من الغابة. حينها اكتشفت أن لدى شوكت الربيعي الرغبة في القبض على العصب السري للظاهرة الطبيعية. ليس من خلال مشهديتها فقد، بل من خلال البحث عن المكونات السرية التي تلازم الانطباعات أو الإشعاعات أوحتى الأساطير البيئية وخاصة المدهشة التي تلازمها. لذلك أجدني مدفوعا لمواصلة البحث عن مصادر أخرى لهذا الولع الحفري عند شوكت الربيعي).
اللون والضوء والانعكاسات على موجات نهر دجلة، هي التي أثارت لدي الفنان االكبير والناقد الجليل الراحل شاكر حسن آل سعيد رغبة التحدث عن سر اهتمام شوكت الربيعي باللون الأخضر وسحناته وأطيافة الرمزية المتعددة. في لوحاتي. وكان متعاطفا جدا مع قصص مخاوفي من العوم في الأنهار. وقد حدثته عن موت ابن خالي وصديق طفولتي في ذلك النهار الذي انكسرت فيه لاحقا حزمات ضوء المساء المتسللة من بين فجوات الغيوم التي تتجمع لتوها مندفعة من الشمال نحو الجنوب.. غادر الناس الملعب، واختفت الاصوات. كنت في تلك اللحظة، طافيا في فضاء القلق والمخاوف. تعثرت.. احتذيت نعالي الذي انفلت من قدمي اليمنى.. ثم واصلت المشي والتفكير معاً. راقبت أصدقائي مليّا، وتذكرت كيف كنا نتمتع سنويا، بمشاهدة كرة القدم على (الملعب ذاته)، وكيف كنا ندفع (أربعة فلوس)أجرة عبورنا بالزورق إلى الجهة الغربية من نهر دجلة شتاء.. وفي الصيف كنا نعبره سباحة (مكوّرين) ثيابنا، عمائم نلوثها على رؤوسنا، حتى كاد ماء النهر يغمرنا. ونطفو منسابين كالإوز أو طيور(الحذّاف) على سطح الماء الأصفر المشبع بالغرين المنجرف مع جريانه المندفع بسرعة نحوالجنوب.. (نغط ونلبط) في تيار الماء الخابط القارص البرودة، المتلامع بانعكاسات وهج نور المساء.. ثم نتسابق انصاف عراة الى تسلق اشجار النبق.. نقطف حبات النبق الناضجة، الصفر منها والحمر والقرمزية.. وكنت لا أرغب بالسباحة وحيدا في هذه المنطقة من النهر بعد أن غرق فيها ابن خالي (صبيح) قبل خمس سنوات.. وكانت أمه(فهيمة 1922-1988م) تنوح حتى حَكاها طائرٌ غَردُ.. تنطر حفافي (الشرايع) والضفاف، وكانت (ركنة 1902- 1975)عمتي وجدته لأمه تجوب(شريعة الشاطيء) جيئة وذهابا، لهفى وهي تبكي، والروحْ مـا تِحْمِلْ سقما ولا أسى أو لوعة، (فبكى لها من ليس يعرفها).. وظلت توقد الشموع على كربة نخل جافة، (تشعل سعفة تسحبها من البستان للشط.. إجباره طويلة، أطول السعفات.. تبقى مشتعلة إلى ان تصل (للشريعة..). وظلّ أبوه (ملا فاضل) يشيط من الحزن حتى حسبته، تنفس من أحشائه.. وكان يبكي فأبكي رحمة لبكائه. واخته راسقية امي إذا ما بكى دمعاً بكتُ له دماً".

وظلت أمه (فهيمة) مقيمةً، على ضفة دجلة، مكلومةً، محزونةً، إلى أن طفت جثته فوق أمواج أحزانها.. توقفت عن التفكير، بعد أن لكزني صديق طفولتي الراحل (ابراهيم جاسم خلف)، وهويشير إلى غادة من صبايا (بائعات الخضرة) منبهرا بسعة عينيها وجمال جسدها المفتول الذي كاد لتكوره أن يقطع لها أزرار ثوبها. وكانت تشد خصرها الأهيف بعبائتها، فبدت فاتنة مبهرة الجمال. كانت واقفة صامتة مستغرقة في نجوى ذاتها، بينما انطلقت أصوات رخيمة أخرى، بدت تشدوكتلك الكثبان الرملية المغنية، يؤلفن من حوار عيونهن ألحانا و(غناء). وكان الناس محتشدين هنا، بانتظار انغلاق بوابة الجسر الخشبي العائم الذي افتتحه في السادس من يناير- كانون الثاني عام 1937م (الملك غازي). لمناسبة تاسيس الجيش العراقي.
وقد وصف شاكر حسن آل سعيد ألوان لوحاتي الخضر، وهي تتموج مع لمعان ألوان أمواج النهر في موسم الموحان، أو الفيضان، بأنه وصف مشحون (بقيمة لونية من اطياف الأبداع الروحي.) ولكنه الابداع الذي تحركه الحرية، والمشاهد هو الذي يعطي وجودا للعمل الفني إذا مارس حريته. وانطلاقا من فكرة الحرية، تبلورت معاني شراكة الفنان والمشاهد، والمجتمع. وتفسر أن العمل الفني، هو في جوهره، ذاتية مجتمع يعيش ثورة دائمة".
هكذا نسعى الى تقديم أجوبة متناسقة تعتمد معالجات وتقنيات تجريبية، تنحاز الى قضايانا الفكرية والاقتصادية.. ومن خلال الأعمال اللوحات الكثيرة التي نستشهد بها، المرتبطة بعصرنا الراهن أو بعصور سابقة من تاريخ الفنون، ليمكننا لاحقا من التمييز بين خصوصيات الأشكال التعبيرية الفنية المختلفة. لكي نتوخى الكشف عما تنطوي عليه الحياة من صعوبات واشكاليات في ممارسة حرية التعبير الفني. وهذا الكشف سيكون قويا ومقنعا من خلال فنية الأسلوب والشكل. ان ممارسة الرسم وكتابة النقد الفني التشكيلي، هو كشف لما تعرضه تجربتنا الفنية من جمالية وقيم ومفاهيم ومواقف في الحاضر، لتساعدنا على أن نتخذ منها مادة لابداعنا الفني..

س17: نوال الغانم: لوحة عودة الغائب عام 1959، في هور الرفاشية جنوب العراق عام 1963، وجوه اتعبها الخوف عام 1964، ليلة الحناء عام 1964 من مجموعة حمورابي كلري - عمان، من ضحايا الخوف 1982 نرى أن الخوف هو القاسم المشترك لهذه اللوحات وغيرها الكثير.
* ماهو سر الخوف الكبير الذي يتبدى للمتأمل في عيون شخوصك؟ هل هو إنزياح من خوف شخصي كامن في اللاوعي؟
ج17: ولدنا ونحن نرضع حليب الخوف. نرضع من أثداء الرعب حليب الخوف. ونشأنا وسط غابة من المخاوف، كنا نعود من طين مرابع اللعب واللهو البسيطة جدا، مساءً، متباطئين متعبين، فنبدو بوجوهنا الريفية المدورة، كورقة خريفية صفراء تهتز قاماتنا النحيفة من الإرهاق. كنا نتنقل بين أمكنة لهونا على ضفاف أنهر مدينة العمارة الثلاث: دجلة والكحلاء والمشرح.
وفي كل اسبوع لنا لقاء على ضفة نهر واحد منها، نغادره عندما يأتي المساء وأثناء لحظات غروب الشمس واختفاء قرصها الأحمر البرتقالي العريض حزيناً خلف الأفق، تاركاً وراءه غيوماً ملونةً بالأحمر القاني وبمساحات أخرى ملطخة باللون الأصفر والبرتقالي ومتماهية بألوان شفق الغروب الآفل. وكنا نتشاءم، عندما نلاحظ على قرص الشمس حمرةً شديدة، ونعتبر ذلك نذير شؤم. (صحيح يا جماعة هاي حمرة قرص الشمس مخيفة).
ونظل نتابع تحولات أشكالها وألوانها لبضع لحظات، وهي تزداد اتساعاً وتميل إلى اللون البرتقالي الساطع، وقد تداخلت معها الألوان البنفسجية والزرقاء المضيئة.. ونحن نتأمل تداخل سحنات ألوان الغيوم المندفعة بسرعة نحوالشمال.. ها هي غيمة رمادية تتجه من الشرق، وقد خفف من دكنة أطرافها، حزمات حمر من الوهج الضامر لأشعة الشمس الغاربة.. وسرعان ما تلبدت السماء بغيوم زرق وسود ورمادية كالحة، فيأخذنا حذر وخوف من انهمار المطر الشديد. فنعود متسارعين متعبين، من الجوع وتعب العوم واللهوواللعب والقراءة. وما أن كنا في بعض الطريق من عودتنا إلى بيوتنا، حتى نطّ ابن عمي " فرج عثمان " يقفز فوق سياج المقبرة بشقاوة الصبية المنطلقين، فسقط على إثرها، وانكسرت يده اليمنى، وقررنا عدم اللعب حتى يشفى.. ولازالت حمرة قرص الشمس تزداد اتساعاً وتميل إلى اللون الأحمر الداكن، وقد تداخلت معها الألوان البنفسجية والزرقاء الغامقة.. واغبرّ الجو واكفهرت وجوهنا معها حتى عودتنا الى كهوف سكنانا.
ولكن بداية الخوف كانت قد بدأت منذ الصف الأول في المدرسة الابتدائية، في اليوم التالي، من مباشرتي الجلوس لأول مرة على مقعد الدراسة، الذي قادني اليه ابن عمي عدنان الذي استنجدت به من المعلم (ذي الوجه المحفور بالجدري) وكنت اختض خوفاً من سطوته، فقد سحبني إليه وطوقني بذراعيه ثم دفعني بعنف إلى (السبورة) وسقطت كأنني ريشة عصفور يخرج للطيران تواً، لأنني رفعت إصبعي الصغيرة استأذنته (لقضاء حاجة) ولم يعرني اهتماماً.. حاصرني الإسهال الحاد ولم أعد أستطيع السيطرة على نفسي، فرفعت إصبعي الصغيرة مرة أخرى، وأنا أبكي هذه المرة، ويداي تضغطان على بطني وظهري منحنٍ إلى أسفل.. ولكنه نهرني وقد تشنجت تقاطيع وجهه. وغدت ملامحه أشبه بما وصفته عمتي (ركنة) في قصصها لنا قبل النوم: أشباح (الطناطل والسعالي).
لم تقفز كلمة واحدة من بين شفتيّ المبللتين بدمع الخوف. وتصاعد وجيب القلب مضطربا في صدري. وتوجهت إلى (أبن عمتي عدنان) في الفصل الخامس أشكو إليه حالي فوجدته مجندلاً في زاوية الصف اليمنى ووجهه إلى الحائط رافعاً يديه إلى أعلى، فاختلطت عندي الأشياء. لمن أشكو.. وكتمت سري في أعماقي مغادراً المدرسة إلى البيت، ولم أعد إليها حتى بداية السنة الدراسية الجديدة.
ولكن اشتداد هاجس الخوف يعود الى اليوم السادس من الشهر الأول لعام 1958. في ذلك اليوم المترب المغبر، عدت متسارعا للوصول الى دارنا وكانت خربة متداعية. تعثرت بنعالي الذي انفرط وانفلت عن قدمي. فتركته في مكانه. ومشيت حافيا لبضعة أمتار من منتصف الزقاق الذي كنا نتجمع على امتداده، ونلعب كرة قدم مصنوعة من قماش قديم.. واصلت المشي مجتازا بيوتا لها في القلوب منازل.. الوجوه ايّاها التي عرفتها والفت رؤيتها منذ أمد بعيد، وقد احتشدت أمام دارنا القديمة.. اتجهت الأنظار نحوي.. لمحت أبناء عمومتي وأخوالي وعشيرتي.. وسمعت عن بعد صوت شاعرة الأحياء الفقيرة (كلثوم أم نجم) التي لا يخلومأتم من حضورها، أميزها عن سواها بصوتها الحاد ذي الطبقة العالية المؤثرة والذي لا تخطئه أذناي أبداً.
فقلت في نفسي: (يا ويلي..).. وكان أبي مسجىً على حصيرة، يحيط به تأريخ من حالات وأساطير.. وأشباه وجوه لم أتبين ملامحها.. كنت أراقب لون جسده يتحول إلى يمامة زرقاء متربة.. ينتفخ صدره تدريجياً، يرتفع وينخفض بقوة.. يضطرب تنفسه بسرعة، ويتباطأ وجيب قلبه. فمه نصف مغلق غائر إلى الداخل.. عيناه منطفئتان لا بريق فيهما سوى نقطة ضوء واحدة صغيرة جداً، تومض في عينه اليمنى وتختفي كأنها نجمة بعيدة غائرة في فضاءٍ من العتمة والغبار.. كان يرفع يده ببطء ثم تهوي سريعاً على حصير البردي المضغوط.. كنت مضطرباً تجتاحني قوة الموت التي أواجهها لأول مرة.. وضعت يدي اليمنى على وجه أبي.. لمحت عبرته العتية.. أغمض عينيه لحظات غاب فيها عن الوعي.. ثم صحا بعدها على صراخ المفجوعات من حوله.. مسحت يده بوجهي، كما فعلت المجدلية عندما مسحت قدم عيسى بشعر رأسها.. تخيلته يستعيد شريط حياته بأكملها في هذه اللحظات.. لم يعد قادراً الآن على تحريك يده الثانية. تصلبت ساقه الأخرى وتخشبت أصابع قدميه.. تحسستهما فكانتا باردتين.. بدأت تطفوعلى لون جسده زرقة باهتة.. ازداد صدره ارتفاعاً وانخفاضاً وتنفسه قوة يصحبها صوت شخير حاد. هاهي ذي اللحظة الحاسمة تقترب مثقلة بالأزمان السحيقة.. فكانت حشرجة الاحتضار، والرحيل.. وقد هيئ إلي انه كلما اقترب الفجر، ولاح خيط الصبح، كلما ستزداد أعماقنا ظلاماً.
واستيقظت كل الأحزان مع فجر يوم شديد النور ليبدأ في حياتنا نهار شديد الظلام. وعشنا السنوات التي أعقبت وفاته، منقبضي القلوب وقد وهنت فينا الطبيعة الودودة. ليس في بيتنا وحسب بل وفي مشاعر زوجته الثانية (صديقة حبيب)، " أم دلال "، التي توقفت أمام دارها، السيارة التي تحمل نعشه. ولم يستطع السائق أن يصلح سيارته، إلاّ بعد أن قدر لها أن تشاهد الجنازة.. خرت على الأرض.. وظلت حتّى وفاتها، حزينة، منعزلة عن العالم.. كانت نارها التي تستعر على ظلام حرمان الروح واندياحها في قلب المتاهة، فتلمست جرحها وعذابها وحيدة في مطهر النفس، وبنبض مخاوف المستقبل.
كان الزمن الذي كبرنا فيه محمّلا بالحرمان وقد غمرنا الوجد.. فثمة أحزان لم نكن نعيها، تقبع في أعماقنا، ولكنّ فرح الطفولة يأخذنا بعيداً عن تفاسير الآخرين.. ننام ونصحو على عوالم نخترع فيها أحلامنا البديلة.. نبتدعها عوضاً عن اللعب المشتهاة التي كنا نراها عند أبناء المترفين. أو على واجهات المخازن الزجاجية وفي الأفلام السينمائية وعلى صفحات المجلات القديمة.. ومع هذا العوز والضنك لم نعرف السؤال أبدا. و(سيأتي الخضر. الغيوم سفينته وخبز العباس زاد الطريق. الى كربلاء، الناس في بلدي يبكون في عاشوراء.
الناس في بلدان أخرى يتزلجون على الثلج وآخرون يذهبون الى قاعات موزارت. نحن فقط، نعشق في العشرة المأساة، موسيقى المنابر... فهي وحدها من تُعيد الينا ثبات الرغبة بسلامة الوطن/ أبا الفضل، فضلك إنك أعطيت كفيك لتوصل ضوء السلام.. وإن الكف المقطوع ليس سوى علامة توصلنا الى أبعد النجوم.. لأن ضوء الهودج يغري اللون بفتنة المصاب / ولأن إمرأة عراقية يتهدج فيها الدعاء السومري / رباه أخذت الحسين شهيدا لرغبة في وجدانه، فإبق لنا وجدان العراق.). (مقطع من قصيدة خبز العباس خضر الياس. للشاعر العراقي المتجدد نعيم عبد مهلهل)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق